بقدر ما تذهلنا الحياة بمتناقضاتها العديدة يبقى ما يعتمل في النفس البشرية منها هو الأكثر غرابة وإثارة للحيرة .. فتصوُر اجتماع مشاعر متناقضة تجاه شخص واحد قد يُربك البعض ظناً منهم أنّه خلاف المعتاد ؛ بينما الواقع يشهد أن الحب والبغض قد يتجاوران في قلوبنا وفي اتجاه شخص واحد .. وكذلك الإعجاب والغيرة .. أو العداوة والاحترام .. كل ذلك ببواعث مختلفة تحكمها حاجات وأفعال إنسانية متعددة
فكم من امرأة أحبت عشيرها وبغضته في آن واحد لاجتماع دواعي المعروف وضده في عشرته لها .. وكم من طفل لم يستقِ من معين أبويه غير القسوة ومع ذلك أجبرته قلة الحيلة على حبّهما واستجداء العطف منهما .. وكم من امرئ كان محل إعجاب زميله أو حتى أخيه لأفضلية مال أو علم أو صورة .. ولكن تجرّد هذا الإعجاب من الرضا بعدل الله تعالى في قسمة الحظوظ جعل المسكين يحصد بدل الغبطة المحمودة حسدا مذموما تبعته وشاية منكرة أو نميمة مقيتة أو ببساطة مميتة عينا لم تبارك عطية الله له فأوردته المنايا
وفي المقابل كم من النفوس ملكت عزما حوّلت به التقاء تلك المتناقضات إلى دروس مجد يرويها التاريخ استدلالا على عظمة الإنسان حين يتفوق على نفسه .. فكم من عدو أنصف عدوه مروءة رغم توفر دواعي الضد في قلبه .. فنزّه أن يكون صيته مع من إذا خاصم فجر .. وكم من روح بشرية لمّا أن ابتغت كمال عيش أهدت نفسها مطلق الحرية بتمام العبودية لباريها ... هي الهمم حين تعلو ومناهل الأخلاق حين تخلو من الكدر فتخلق من تلاقي الأضداد كمالا
تجليات فكر أسوقها لكم من قلب تيّقن أن الله تعالى لا يخلقُ شرا محضا .. وأنّه الإنسان فقط من يخلق أقبح الأشياء أو أجملها من عين الشيء الواحد ... وتبقى تلك التجليات غيضا من فيض الموجود حقيقة .. فأعظم أسرار نفوسنا هي تلك التي نكتمها بين جنبات صدورنا خشية اطلاع الآخرين عليها .. متجاهلين أن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
تعليق