للمعرفة وجوهها المختلفة ودرجاتها المتفاوتة شأنها في ذلك شأن كل شيء آخر في الحياة لكن مع ميزة فريدة متمثلة في تحدّيها لعقولنا وقلوبنا لإدراك هذه الوجوه وبلوغ تلك الدرجات ولأنّنا اليوم غفلنا عن تفعيل العقل بكامل طاقاته على الوجه الصحيح وأهملنا القلب والوجدان كأدوات تحصيل معرفي أصبحت النتيجة قصور أفهامنا على حدود المعارف دون سبر أغوارها والتفريط بالتالي في معانيها الحقيقية ومواعظها الخفية لنظلم أروع ما فينا كبشر : إنسانيتنا...
وللدلالة على مغزى كلماتي هنا أسوق إليكم هذا الحديث المتفق عليه- الذي لا شك يعرفه الجميع - والرواية لمسلم :
حدّثني الحكم بن موسى أبوصالح : حدثنا شعيب بن إسحاق : أخبرنا عبدالله بن نافع أنّ عبدالله بن عمر أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود ؛ فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا : نسوّد وجوههما ونُحمّلهما ونخالف بين وجوههما ويُطاف بهما ، قال : " فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين " فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مرّوا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وماوراءها ، فقال له عبدالله بن سلام – وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مُره فليرفع يده ، فرفعها ؛ فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما ... قال عبدالله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقِيها من الحجارة بنفسه .
اختصارا للسّرد سأتجاوز المواعظ الظاهرة في صدر الحديث الشريف لأنوقّف عند العبارة التي ذيّل بها الصحابي روايته : " كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقِيها من الحجارة بنفسه " عبارة أجدُها مزيج دهشة ورحمة تتركنا وخيال مشهد للحظة بشرية حرجة فاجئتنا بنقيض المتوقع منها ؛ بفعل يستدر الرحمة بقيد الحزم .. ويستفز الأسئلة في ثورة فضول ؛ أسئلة لا تصل بنا إلا إلى حدود المعرفة المستحيلة .. كيف لا والإجابات قد رحلت مع أصحابها ؟!!
فهمٌ عظيم لروح الإسلام هذا الذي جعل عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – يرجم ويرحم في آن واحد .. بالأولى ينفّذ أمر الله ورسوله وبالثانية يحترم إنسانية مَن أمامه وإن كان يهوديا وإن كان زانيا .... إنها اللحظات الأكثر صدقا لاجتماع الشيء ونقيضه بأُلفة : الرحمة والحزم ؛ المروءة في لحظة الموت ؛ العقاب مع إعطاء العذر .. إنها الموعظة الخفية حين تتجلى لتباغت الأفهام في مواسم ترف الفكر وفضول الكلام ...
سأترك لكم فسحة تدبر فأنا لا أؤمن بكتابةٍ لا تلمس الروح ولا تُعمِل العقل .................. ودمتم
تعليق