وقف الأستاذ أمام تلاميذه في الدرس الأول من السنة الجديدة وعدل من وضع نظاراته الثقيلة على انفه وقال :
_من الآن سيكون ((نبيه)) مراقب الصف..
استدار التلاميذ مندهشين إلى ناحية ((نبيه)) .. لا يمكن أن يتصوروه مراقباً. ذلك الطفل الهزيل الذي لا يكاد يقف على قدميه..
كان مراقبهم قبل هذه السنة ((أسامة)) بجسده الضخم ويديه الكبيرتين وعضلاته القوية، ولا يزال رعبهم منه يحول دون تصديق الخبر الجديد الذي ألقاه الأستاذ على مسامعهم تواً. ولكن فرحهم بالمراقب الصغير بدأ بالظهور بعد أن أشار الأستاذ إليه أن يتقدم ويقف إلى جوار السبورة الكبيرة المرتكزة على الحائط المقابل لهم.
ربت الأستاذ على رأسه بحنان متحفظ وقال :
_سجل على السبورة أي تلميذ يشاكس وسيرى ما سأفعل به. ارتفعت معنويات نبيه واصطبغ محياه الجميل بألوان شتى تعبيراً عن خوفه من وضعه الجديد كمراقب وفرحه بتقدير الأستاذ له، ومشاعر كثيرة اختلطت في ذهنه المتوقد بحيث لا يمكنه استيعابها في مثل هذه اللحظة.
بعد برهة خرج الأستاذ لأمر ما مع المدير فأستلم نبيه الصف لحين عودته. وهنا ارتفع صراخ التلاميذ وعبثهم بتحريض من المراقب السابق أسامة. دق نبيه بأنامله الرقيقة على اللوحة دقات خفيفة لم تلفت انتباه التلاميذ الصاخبين ثم تفوه بكلمات غير مسموعة في البداية سرعان ما ارتفعت نبراتها بعد قليل مما خفف من ضوضائهم بدرجة تسمح لهم بالإستماع :
_سأسجل أي شخص منكم إذا لم يسكت.
استمر التلاميذ في ضجيجهم دون أن يأبهوا بكلامه. فأمسك بالطباشير وشرع يكتب على السبورة، كان اسم أسامة في المقدمة، وما أن رأى اسمه على السبورة حتى صاح بأعلى صوته :
_سترى.. بعد المدرسة..!
لم يرتعب نبيه من تهديده أو هكذا كان يبدو أمام زملائه لكنه في الحقيقة كان يرتجف هلعاً في داخله.. فلا احد من التلاميذ لم توجعه ضربات أسامة الثقيلة ومنهم نبيه نفسه.
ولما عاد الأستاذ وقرأ ما كتبه نبيه على السبورة، ناداهم للمثول بين يديه.. تناول المسطرة من منضدة قريبة وراح يضرب بها على أيدي المسجلين. كان أسامة أكثرهم تحملاً لضربات الأستاذ فلم يبد عليه أي اثر غير احمراره واحتقانه بينما علا صراخ باقي التلاميذ وتحول عند بعضهم إلى نحيب.
ساد الصمت الكئيب قاعة الصف وفهم التلاميذ أن مراقبهم الجديد ليس بالهيّن كما توقعوا وسددوا نظراتهم الفاحصة إلى عيني أسامة الذي حملهما الكثير من التهديد لمسبب هذا الألم. انصرف التلاميذ من المدرسة ظهراً وسارع نبيه بالخروج كي لا يلحق به أسامة.. لكن أسامة أدركه عند منتصف الطريق فأشبعه ضرباً وركلاً حتى طرحه أرضا، وبعد أن شفى غليله منه لملم دفاتره التي تناثرت في الطريق وتركه يبكي بحرقة شديدة.
* * *
*
تأبط نبيه كتبه في صباح اليوم التالي ولا شيء في ذهنه غير أن يكلم الأستاذ، بما حدث له من أسامة.
وقف عند باب المدرسة دقائق قليلة حتى جاء أستاذه وقص له الحكاية وذيلها بطلبه إعفاءه من مسؤولية مراقب الصف.. أصغى إليه باهتمام ملحوظ وطمأنه أن ذلك لن يتكرر بعد الآن، وأقنعه أن ما حدث لا يعفيه من هذه المسؤولية، لكن الخوف لم يزل تماماً من قلب نبيه حتى حان موعد الدرس الأول وانتظم التلاميذ في صفوفهم وهدأت المدرسة كلها..
استقام الأستاذ وفي يده المسطرة وصاح بحزم :
_من يتعرض بعد الآن للمراقب اكسر رأسه..
ثم هجم على أسامة وراح يكيل له الضربة تلو الضربة حتى صرخ مستغيثاً لأول مرة.. فانهارت صورة المراقب القديم أمام التلاميذ وشعروا باحترام وخوف تجاه المراقب الجديد بعد ما شدد الأستاذ على ضرورة احترامه قولاً وفعلاً.
وقبل نهاية الدرس ترك الأستاذ الصف لنبيه وانصرف مسرعاً.. لم يتغير الوضع كأن الأستاذ حاضر بينهم.. هدوء شامل ورهبة مدهشة.. بينما راح نبيه يذرع الغرفة منتشياً.. ثم تقدم باتجاه أسامة وصاح فيه :
_غداً تجلب لي صوراً ملونة أو مجلة أو ورقاً..!
فتح أسامة فمه ولم يتكلم.. ثم استدار نبيه إلى بقية أصدقاء أسامة وقال لهم نفس الكلام الذي قاله لأسامة ثم أضاف :
_إذا لم تنقذوا ذلك أسجلكم غداً على السبورة.
لم يتكلم احد منهم أيضا، وذاق نبيه حلاوة صمتهم هذا بعد ما كانوا لا يقيمون له وزناً، ولكنه لم يفهم لحد الآن لماذا اختاره الأستاذ لذلك.. هل هو تفوقه الدراسي؟ أو هدوءه في الصف دون زملائه، أو أي شيء آخر.. المهم من كل ذلك انه أصبح مراقباً والتلاميذ يخافونه. ذلك أقصى ما كان يتمناه.
في اليوم التالي جاء أسامة وأصدقاؤه بما أوصاهم به نبيه بل أضافوا عليه أيضا.
وبعد أن رأى نبيه أن أوامره تنفذ مثلما يريد توسع بمطالبه لتشمل التلاميذ اجمعهم حتى ضاقوا به واشتكوه إلى الإدارة.
تحول الأستاذ إلى صف آخر وعاد نبيه تلميذاً كعهده السابق بعد أن فهم الدرس جيداً.
_من الآن سيكون ((نبيه)) مراقب الصف..
استدار التلاميذ مندهشين إلى ناحية ((نبيه)) .. لا يمكن أن يتصوروه مراقباً. ذلك الطفل الهزيل الذي لا يكاد يقف على قدميه..
كان مراقبهم قبل هذه السنة ((أسامة)) بجسده الضخم ويديه الكبيرتين وعضلاته القوية، ولا يزال رعبهم منه يحول دون تصديق الخبر الجديد الذي ألقاه الأستاذ على مسامعهم تواً. ولكن فرحهم بالمراقب الصغير بدأ بالظهور بعد أن أشار الأستاذ إليه أن يتقدم ويقف إلى جوار السبورة الكبيرة المرتكزة على الحائط المقابل لهم.
ربت الأستاذ على رأسه بحنان متحفظ وقال :
_سجل على السبورة أي تلميذ يشاكس وسيرى ما سأفعل به. ارتفعت معنويات نبيه واصطبغ محياه الجميل بألوان شتى تعبيراً عن خوفه من وضعه الجديد كمراقب وفرحه بتقدير الأستاذ له، ومشاعر كثيرة اختلطت في ذهنه المتوقد بحيث لا يمكنه استيعابها في مثل هذه اللحظة.
بعد برهة خرج الأستاذ لأمر ما مع المدير فأستلم نبيه الصف لحين عودته. وهنا ارتفع صراخ التلاميذ وعبثهم بتحريض من المراقب السابق أسامة. دق نبيه بأنامله الرقيقة على اللوحة دقات خفيفة لم تلفت انتباه التلاميذ الصاخبين ثم تفوه بكلمات غير مسموعة في البداية سرعان ما ارتفعت نبراتها بعد قليل مما خفف من ضوضائهم بدرجة تسمح لهم بالإستماع :
_سأسجل أي شخص منكم إذا لم يسكت.
استمر التلاميذ في ضجيجهم دون أن يأبهوا بكلامه. فأمسك بالطباشير وشرع يكتب على السبورة، كان اسم أسامة في المقدمة، وما أن رأى اسمه على السبورة حتى صاح بأعلى صوته :
_سترى.. بعد المدرسة..!
لم يرتعب نبيه من تهديده أو هكذا كان يبدو أمام زملائه لكنه في الحقيقة كان يرتجف هلعاً في داخله.. فلا احد من التلاميذ لم توجعه ضربات أسامة الثقيلة ومنهم نبيه نفسه.
ولما عاد الأستاذ وقرأ ما كتبه نبيه على السبورة، ناداهم للمثول بين يديه.. تناول المسطرة من منضدة قريبة وراح يضرب بها على أيدي المسجلين. كان أسامة أكثرهم تحملاً لضربات الأستاذ فلم يبد عليه أي اثر غير احمراره واحتقانه بينما علا صراخ باقي التلاميذ وتحول عند بعضهم إلى نحيب.
ساد الصمت الكئيب قاعة الصف وفهم التلاميذ أن مراقبهم الجديد ليس بالهيّن كما توقعوا وسددوا نظراتهم الفاحصة إلى عيني أسامة الذي حملهما الكثير من التهديد لمسبب هذا الألم. انصرف التلاميذ من المدرسة ظهراً وسارع نبيه بالخروج كي لا يلحق به أسامة.. لكن أسامة أدركه عند منتصف الطريق فأشبعه ضرباً وركلاً حتى طرحه أرضا، وبعد أن شفى غليله منه لملم دفاتره التي تناثرت في الطريق وتركه يبكي بحرقة شديدة.
* * *
*
تأبط نبيه كتبه في صباح اليوم التالي ولا شيء في ذهنه غير أن يكلم الأستاذ، بما حدث له من أسامة.
وقف عند باب المدرسة دقائق قليلة حتى جاء أستاذه وقص له الحكاية وذيلها بطلبه إعفاءه من مسؤولية مراقب الصف.. أصغى إليه باهتمام ملحوظ وطمأنه أن ذلك لن يتكرر بعد الآن، وأقنعه أن ما حدث لا يعفيه من هذه المسؤولية، لكن الخوف لم يزل تماماً من قلب نبيه حتى حان موعد الدرس الأول وانتظم التلاميذ في صفوفهم وهدأت المدرسة كلها..
استقام الأستاذ وفي يده المسطرة وصاح بحزم :
_من يتعرض بعد الآن للمراقب اكسر رأسه..
ثم هجم على أسامة وراح يكيل له الضربة تلو الضربة حتى صرخ مستغيثاً لأول مرة.. فانهارت صورة المراقب القديم أمام التلاميذ وشعروا باحترام وخوف تجاه المراقب الجديد بعد ما شدد الأستاذ على ضرورة احترامه قولاً وفعلاً.
وقبل نهاية الدرس ترك الأستاذ الصف لنبيه وانصرف مسرعاً.. لم يتغير الوضع كأن الأستاذ حاضر بينهم.. هدوء شامل ورهبة مدهشة.. بينما راح نبيه يذرع الغرفة منتشياً.. ثم تقدم باتجاه أسامة وصاح فيه :
_غداً تجلب لي صوراً ملونة أو مجلة أو ورقاً..!
فتح أسامة فمه ولم يتكلم.. ثم استدار نبيه إلى بقية أصدقاء أسامة وقال لهم نفس الكلام الذي قاله لأسامة ثم أضاف :
_إذا لم تنقذوا ذلك أسجلكم غداً على السبورة.
لم يتكلم احد منهم أيضا، وذاق نبيه حلاوة صمتهم هذا بعد ما كانوا لا يقيمون له وزناً، ولكنه لم يفهم لحد الآن لماذا اختاره الأستاذ لذلك.. هل هو تفوقه الدراسي؟ أو هدوءه في الصف دون زملائه، أو أي شيء آخر.. المهم من كل ذلك انه أصبح مراقباً والتلاميذ يخافونه. ذلك أقصى ما كان يتمناه.
في اليوم التالي جاء أسامة وأصدقاؤه بما أوصاهم به نبيه بل أضافوا عليه أيضا.
وبعد أن رأى نبيه أن أوامره تنفذ مثلما يريد توسع بمطالبه لتشمل التلاميذ اجمعهم حتى ضاقوا به واشتكوه إلى الإدارة.
تحول الأستاذ إلى صف آخر وعاد نبيه تلميذاً كعهده السابق بعد أن فهم الدرس جيداً.
تعليق