بسم الله الرحمن الرحيم
ضياع
في ذلك المساء، لم أعد إلى البيت. آثرتُ البقاء على الشاطئ، متذكراً إيَّاها؛ إذ كان قد مضى زمن طويل منذ أن أودعتْ روحها إلى كبد السماء إثر مرضٍ لم يستوفِ الأطباء فهم أعراضه. وحيداً كنتُ أنظر إلى البحر. كانت الذكريات تتواتر بين الفينة والأخرى. تتماوج في سكون. يتسامى أصداؤها من بعيد، فأحاول اللحاق بها. أغمضتُ جفناً، توالت الدموع مدراراً. في ذلك المساء، لم أعد إلى البيت. كان البيت وحيداً، بانتظار أوبة رحيلٍ طال أمده.
المكان القصيّ
آثرتُ الإنزواء بعيداً عن الناس، حيث تاقتْ نفسي أن تقضي شطراً كبيراً من الوقت في عزلةٍ تأمليةٍ طويلة، أجوب خلالها ربوع الذاكرة والذكريات التي تراوحتْ بين الحسنة منها والسيئة. فرأيتني للوهلة الأولى وسط زملائي من طلبةٍ وطالباتٍ جمعتني بهم كلية حديثة المنشأ، ثم ما فتأتُ أن وجدتُ قدراً كبيراً من مشاعر غليظة محتدمة تراءتْ في أعينهم بشتى أشكال الكراهية والسخط، وتنامى إلى سمعي همس أحدهم لآخرٍ يحاذي مقعده مقعده: "انظر إليه! ... المعقَّد يبقى معقَّداً". فهززتُ رأسي عدة مرَّات حتى تلاشت الذكريات وخيال زملائي من طلبةٍ وطالبات، وبقيتُ في مكاني القصيّ، أتنفَّس الصعداء، بعيداً عن الناس.
ومضة التجلي
بات ليله عصيَّ النوم، لا يؤتي حراكًا. جفنٌ كاظمٌ، تائهٌ في دياجير الظلام، وروحاً صقلتها ثورةٌ صارخةٌ قيِّضتْ به. حاول أن يغمض جفنًا كي يدرك الصَّباح من أوَّله، فلم يستطع. الجنازة قُرِّرتْ عند الصباح الباكر، بُعَيْدَ صلاة الفجر. صدى مرض أمِّه ما يزال يتردد في غياهب عقله، يؤجج نار الفضول في دخيلته، ويربض في عينيه إحساسٌ غريب تداخل معه الخوف وأشياء أخرى لم يعهدها من قبل، كالريبة، كالسؤال.
وتعاقبتِ الشُّهور، وما زال يقطنه شبقٌ دوى صداه في أعماقه. كان لا يفتأ يطرأ عليه ذلك السُّؤال بين الفينة والأخرى، فتبرق عيناه في ظلام الحجرة، مخلفةً صدى ذلك السُّؤال المبهم، متلاطماً في ثناياه: "ماتت أمي؟!"
يقظةٌ بيضاء
أوثق الحبل جيِّداً حول عنقه، ثم تسمَّر في مكانه فوق مصطبةٍ خشبيةٍ قديمةٍ، وحيداً في حجرةٍ غارقة في الظلمة، وحبلٍ غليظٍ يمتدُّ من عنقه إلى المروحة المعلقة في سقف الحجرة. للحظات، امتلئتْ عيناه بالعبرات، وتنهَّد عن أنفاس واهنة أثقلتها الهموم والسنون. وما أن آلت المصطبة إلى السقوط، حتى اعتراه شعور غريب لا يوصف؛ إذ كانت قد ترامتْ إلى مسمعه، للوهلة الأولى، صدى ضحكات أبناءه، آتية من مكانٍ قصيّ.
ضياع
في ذلك المساء، لم أعد إلى البيت. آثرتُ البقاء على الشاطئ، متذكراً إيَّاها؛ إذ كان قد مضى زمن طويل منذ أن أودعتْ روحها إلى كبد السماء إثر مرضٍ لم يستوفِ الأطباء فهم أعراضه. وحيداً كنتُ أنظر إلى البحر. كانت الذكريات تتواتر بين الفينة والأخرى. تتماوج في سكون. يتسامى أصداؤها من بعيد، فأحاول اللحاق بها. أغمضتُ جفناً، توالت الدموع مدراراً. في ذلك المساء، لم أعد إلى البيت. كان البيت وحيداً، بانتظار أوبة رحيلٍ طال أمده.
المكان القصيّ
آثرتُ الإنزواء بعيداً عن الناس، حيث تاقتْ نفسي أن تقضي شطراً كبيراً من الوقت في عزلةٍ تأمليةٍ طويلة، أجوب خلالها ربوع الذاكرة والذكريات التي تراوحتْ بين الحسنة منها والسيئة. فرأيتني للوهلة الأولى وسط زملائي من طلبةٍ وطالباتٍ جمعتني بهم كلية حديثة المنشأ، ثم ما فتأتُ أن وجدتُ قدراً كبيراً من مشاعر غليظة محتدمة تراءتْ في أعينهم بشتى أشكال الكراهية والسخط، وتنامى إلى سمعي همس أحدهم لآخرٍ يحاذي مقعده مقعده: "انظر إليه! ... المعقَّد يبقى معقَّداً". فهززتُ رأسي عدة مرَّات حتى تلاشت الذكريات وخيال زملائي من طلبةٍ وطالبات، وبقيتُ في مكاني القصيّ، أتنفَّس الصعداء، بعيداً عن الناس.
ومضة التجلي
بات ليله عصيَّ النوم، لا يؤتي حراكًا. جفنٌ كاظمٌ، تائهٌ في دياجير الظلام، وروحاً صقلتها ثورةٌ صارخةٌ قيِّضتْ به. حاول أن يغمض جفنًا كي يدرك الصَّباح من أوَّله، فلم يستطع. الجنازة قُرِّرتْ عند الصباح الباكر، بُعَيْدَ صلاة الفجر. صدى مرض أمِّه ما يزال يتردد في غياهب عقله، يؤجج نار الفضول في دخيلته، ويربض في عينيه إحساسٌ غريب تداخل معه الخوف وأشياء أخرى لم يعهدها من قبل، كالريبة، كالسؤال.
وتعاقبتِ الشُّهور، وما زال يقطنه شبقٌ دوى صداه في أعماقه. كان لا يفتأ يطرأ عليه ذلك السُّؤال بين الفينة والأخرى، فتبرق عيناه في ظلام الحجرة، مخلفةً صدى ذلك السُّؤال المبهم، متلاطماً في ثناياه: "ماتت أمي؟!"
يقظةٌ بيضاء
أوثق الحبل جيِّداً حول عنقه، ثم تسمَّر في مكانه فوق مصطبةٍ خشبيةٍ قديمةٍ، وحيداً في حجرةٍ غارقة في الظلمة، وحبلٍ غليظٍ يمتدُّ من عنقه إلى المروحة المعلقة في سقف الحجرة. للحظات، امتلئتْ عيناه بالعبرات، وتنهَّد عن أنفاس واهنة أثقلتها الهموم والسنون. وما أن آلت المصطبة إلى السقوط، حتى اعتراه شعور غريب لا يوصف؛ إذ كانت قد ترامتْ إلى مسمعه، للوهلة الأولى، صدى ضحكات أبناءه، آتية من مكانٍ قصيّ.
تعليق