كان يوماً من أيامِ مارس الجميلة، والنسيمُ المنعشُ الآتِي من البحر يداعبُ وجههُ الشاحبْ. وجهٌ ما وجدَ الزمانُ مكاناً فيه لتجاعيدَ أخرى. توقفَ هنيهةً ليلتقطَ أنفاسَهُ. يمسحُ العرقَ عن جبينِهِ وهو ينظرُ إلى الشارعِ الصاعدِ ، يا لسخرية الزمن، لقد كان يقطعُ هذا المكان جيئةً و ذهاباً عدة مراتٍ في اليومِ دون أن يكلَّ أو يملَّ... ربَّما كان ذلك أجملُ ما في الجزائرِ العاصمةِ. شوارعُهَا المُلْتوية و أزِقَّتُها الضَيِّقة، الصاعِدَة و النازِلَة كأنَّها أُحْجِيَةً أو متاهة، يجد المار بِها طريقَهُ بِسهولة..فقط إن ولَّى وجهَهُ شطْرَ البحرِ...
حمل رُزمتَهُ وواصلَ المسيرْ قاصداً المركزَ..أصدقاؤُهُ في انتظارِه؛ عليه ألاَّ يتأخرَ عليهم أكثر. أخذَ يحثُّ الخطى على مشقَّتِها. ثم لاحَ له المبنى هناك، يختفي وراء أشجارِ الصَّفصافِ..منظرٌ بديعٌ لو وجدَ من يهتمُّ بِهِ و يُشذِّبُهُ. و عند الباب، وجد الحارس، بِيدهِ فنجانَ قهوةٍ لا يعرفُ متى ابْتاعَهُ أو متى سيُكمِلهُ ...تحيةٌ وسؤالٌ عن الحالِ...يتبعُهُما بعضُ الدراهمِ في اليدِ.. " –لا عليك، اشترِ بِها حلوى للصغار، و لا تنسَ أن تُسلمَ على "العجوز".*
يدخلُ باحةَ المركزِ، و كالعادة يجدُ "عمي علي" حاملاً عصاهُ التي لا يَتَوَكَّأُ عليها أبداً، و باليدِ الأخرى ينثُرُ فُتَاتَ الخبزِ لِلْحمامِ و العصافيرِ. يَرفعُ رأسهُ فتَنْفَرِجُ أساريرهُ عنِ ابتسامةٍ شاحبةٍ مُرَحِّباً بالزائرِ العزيزِ:
- السلامُ عليكم يا "عمي علي"..كيف حالُكَ اليومَ، و الله اشتقتُ لكَ كثيراً.
- و عليكم السلام "يا وليدي"، الحمدُ لله، الحمد لله. لقد أَطَلْتَ غيبتكَ كثيراً، عسى خيراً.
- خيراً يا عمي...اُنظرْ، لقد أحضرتُ لكَ الحلوى التي تحبُها، و قد اشتريتُ لك "المْحاجِبْ**" إنها ساخنة.
وضعَ الرزمةَ الصغيرةَ بين يَدَيْ الشيخ و أضاف:
- وهذا قميصٌ جديدٌ، لقد بَعَثَهُ لك ابني...أنت تعرِفُهُ..أرسلان، الذي يَعيشُ بالسعودية، لقد حَمَّلني سلاماً خاصاً لك.
تناولَ العجوزُ الهدايا و على أهدابِهِ دمعةٌ أبَتْ إِلاَّ أن تنزل و معها زفرةٌ حارةٌ على من ذهبوا و نَسُوْه، و قال في صوتٍ هو أشبهُ إلى الهمْسِ:
- بارك الله فيك و فيه...أدعوالله أن يحميه و يحفظه لك ...بارك الله فيك.
- لا داعي يا "عمي علي"...أنت بِمثابة والدي... إذا أردت منه أي شيء فلا تَخْجَلْ، سَيُسْعِدُهُ أن يَبْعثَ إليكَ بما تُريدُ.
في الطرفِ الآخَرِ من الممرِ الواسعِ، كانت عجوزان تجلسان" لالة*** دوجة و لالة عائشة". تتبادلان أطراف الحديث كأنهُمَا قِطعتانِ من زمنٍ بعيدٍ... لَهُمَا أيضاً نصيبٌ من رِزمتهِ، منديلان أبيضان يليقان بِمقامهما، و علبةٌ من أدواتِ الزينةِ العتيقةِ، صابون و حناء و عطر.
يمر الممرضُ بهم فيُلقي تحيةً هاربةً...لابد أنَّ أحدَ العَجَزَةِ مريضٌ جداً و يحتاج لِإِسعافٍ عاجلٍ...غيرَ بعيدٍ عنهُ، يجلس "عمي الهادي"، رجلٌ وقورٌ ذو لِحيةٍ بيضاءَ؛ يُشبه في هيئتِهِ الدَّايات و الباشوات. يُلقي عليه التحية و يُنَفِّحُهُ بقميصٍ و سبحةٍ معطرةٍ...هدايا من ابنه المُغتربِ في السعودية. و يرُد "عمي الهادي" بآيات الشُّكرِ و العِرفانِ مع أدعيةِ الحِفظِ و الصَّونِ من العين و حسدِ الحاسدين.و يُكمِلُ جَولَتَهُ في المركزِ مُحَيِّياً ذاكَ و سائِلاً عن صّحة تلكَ. عادةٌ اتَّخَذَهَا سبيلاً للحياة منذُ أن فارقَهُ ولَدُه الوحيدُ، في انتظارِ أن يأْخُذَهُ معهُ عندما تَجْهزُ أوراقُ السَّفر و تَرْتيباتُه. مالَ قرصُ الشمسِ للمغيبِ، و حان وقتُ الذهاب. ودَّعَ الجميعَ بحَرارةٍ واعداً إِيَّاهُمْ بِزيارةٍ قريبةٍ . غادرَ المركزَ و أُغْلِقَتِ الأبوابُ.
********************
الشرطة تُطَوِّقُ المكانَ، غرفة صغيرةٌ في قَبْوِ العمارةِ. أعوانُ الحمايةِ المدنيةِ يَحملون جُثة رجل في السبعين من العمر. لم يَبْدُ علَيهِ آثارُ اعْتِداءٍ أو قَتْلْ. معاينةٌ سريعةٌ منَ الطبيبِ تُؤكدُ أن الوفاة طبيعيةُ، أحدُ الجيرانِ يُثْبِتُ أن الرجلَ ذو سُمعةٍ طيِّبةٍ في الحيِّ و الكُلُّ يُحِبُهُ، ثُمَّ يُواصل الشُّرطي السؤال:
- هل كان يزوره أحدٌ، أو كان يَتَرَدَّدُ على مكانٍ معينٍ؟؟
- لم يَزُرْهُ أحدٌ منذُ سِنِينْ...إلاَّ أنَّه كان يَتردَّدُ على دارِ العجزةِ.
- وهل لَه أقاربٌ أو أولادٌ..أحدٌ يُمكننا الاتِّصالُ بهِ؟
- لا أحدَ يا سيّدي، إنَّه أرملْ...لهُ ولدٌ واحدٌ في الغربة، لكنَّه لم يَعُدْ لِزِيارةِ والدِهِ منذُ عشْرِ سنينَ، و لا أحد يعرفُ عنْهُ شيئاً منذُ ذاك الحينِ.
*العجوز: عبارة احترام كناية على الوالدة أو الأم.
**المحاجب: أكلة تقليدية جزائرية.
***لالة: كنية للتقدير للسيدة العاصمية قديماً
حمل رُزمتَهُ وواصلَ المسيرْ قاصداً المركزَ..أصدقاؤُهُ في انتظارِه؛ عليه ألاَّ يتأخرَ عليهم أكثر. أخذَ يحثُّ الخطى على مشقَّتِها. ثم لاحَ له المبنى هناك، يختفي وراء أشجارِ الصَّفصافِ..منظرٌ بديعٌ لو وجدَ من يهتمُّ بِهِ و يُشذِّبُهُ. و عند الباب، وجد الحارس، بِيدهِ فنجانَ قهوةٍ لا يعرفُ متى ابْتاعَهُ أو متى سيُكمِلهُ ...تحيةٌ وسؤالٌ عن الحالِ...يتبعُهُما بعضُ الدراهمِ في اليدِ.. " –لا عليك، اشترِ بِها حلوى للصغار، و لا تنسَ أن تُسلمَ على "العجوز".*
يدخلُ باحةَ المركزِ، و كالعادة يجدُ "عمي علي" حاملاً عصاهُ التي لا يَتَوَكَّأُ عليها أبداً، و باليدِ الأخرى ينثُرُ فُتَاتَ الخبزِ لِلْحمامِ و العصافيرِ. يَرفعُ رأسهُ فتَنْفَرِجُ أساريرهُ عنِ ابتسامةٍ شاحبةٍ مُرَحِّباً بالزائرِ العزيزِ:
- السلامُ عليكم يا "عمي علي"..كيف حالُكَ اليومَ، و الله اشتقتُ لكَ كثيراً.
- و عليكم السلام "يا وليدي"، الحمدُ لله، الحمد لله. لقد أَطَلْتَ غيبتكَ كثيراً، عسى خيراً.
- خيراً يا عمي...اُنظرْ، لقد أحضرتُ لكَ الحلوى التي تحبُها، و قد اشتريتُ لك "المْحاجِبْ**" إنها ساخنة.
وضعَ الرزمةَ الصغيرةَ بين يَدَيْ الشيخ و أضاف:
- وهذا قميصٌ جديدٌ، لقد بَعَثَهُ لك ابني...أنت تعرِفُهُ..أرسلان، الذي يَعيشُ بالسعودية، لقد حَمَّلني سلاماً خاصاً لك.
تناولَ العجوزُ الهدايا و على أهدابِهِ دمعةٌ أبَتْ إِلاَّ أن تنزل و معها زفرةٌ حارةٌ على من ذهبوا و نَسُوْه، و قال في صوتٍ هو أشبهُ إلى الهمْسِ:
- بارك الله فيك و فيه...أدعوالله أن يحميه و يحفظه لك ...بارك الله فيك.
- لا داعي يا "عمي علي"...أنت بِمثابة والدي... إذا أردت منه أي شيء فلا تَخْجَلْ، سَيُسْعِدُهُ أن يَبْعثَ إليكَ بما تُريدُ.
في الطرفِ الآخَرِ من الممرِ الواسعِ، كانت عجوزان تجلسان" لالة*** دوجة و لالة عائشة". تتبادلان أطراف الحديث كأنهُمَا قِطعتانِ من زمنٍ بعيدٍ... لَهُمَا أيضاً نصيبٌ من رِزمتهِ، منديلان أبيضان يليقان بِمقامهما، و علبةٌ من أدواتِ الزينةِ العتيقةِ، صابون و حناء و عطر.
يمر الممرضُ بهم فيُلقي تحيةً هاربةً...لابد أنَّ أحدَ العَجَزَةِ مريضٌ جداً و يحتاج لِإِسعافٍ عاجلٍ...غيرَ بعيدٍ عنهُ، يجلس "عمي الهادي"، رجلٌ وقورٌ ذو لِحيةٍ بيضاءَ؛ يُشبه في هيئتِهِ الدَّايات و الباشوات. يُلقي عليه التحية و يُنَفِّحُهُ بقميصٍ و سبحةٍ معطرةٍ...هدايا من ابنه المُغتربِ في السعودية. و يرُد "عمي الهادي" بآيات الشُّكرِ و العِرفانِ مع أدعيةِ الحِفظِ و الصَّونِ من العين و حسدِ الحاسدين.و يُكمِلُ جَولَتَهُ في المركزِ مُحَيِّياً ذاكَ و سائِلاً عن صّحة تلكَ. عادةٌ اتَّخَذَهَا سبيلاً للحياة منذُ أن فارقَهُ ولَدُه الوحيدُ، في انتظارِ أن يأْخُذَهُ معهُ عندما تَجْهزُ أوراقُ السَّفر و تَرْتيباتُه. مالَ قرصُ الشمسِ للمغيبِ، و حان وقتُ الذهاب. ودَّعَ الجميعَ بحَرارةٍ واعداً إِيَّاهُمْ بِزيارةٍ قريبةٍ . غادرَ المركزَ و أُغْلِقَتِ الأبوابُ.
********************
الشرطة تُطَوِّقُ المكانَ، غرفة صغيرةٌ في قَبْوِ العمارةِ. أعوانُ الحمايةِ المدنيةِ يَحملون جُثة رجل في السبعين من العمر. لم يَبْدُ علَيهِ آثارُ اعْتِداءٍ أو قَتْلْ. معاينةٌ سريعةٌ منَ الطبيبِ تُؤكدُ أن الوفاة طبيعيةُ، أحدُ الجيرانِ يُثْبِتُ أن الرجلَ ذو سُمعةٍ طيِّبةٍ في الحيِّ و الكُلُّ يُحِبُهُ، ثُمَّ يُواصل الشُّرطي السؤال:
- هل كان يزوره أحدٌ، أو كان يَتَرَدَّدُ على مكانٍ معينٍ؟؟
- لم يَزُرْهُ أحدٌ منذُ سِنِينْ...إلاَّ أنَّه كان يَتردَّدُ على دارِ العجزةِ.
- وهل لَه أقاربٌ أو أولادٌ..أحدٌ يُمكننا الاتِّصالُ بهِ؟
- لا أحدَ يا سيّدي، إنَّه أرملْ...لهُ ولدٌ واحدٌ في الغربة، لكنَّه لم يَعُدْ لِزِيارةِ والدِهِ منذُ عشْرِ سنينَ، و لا أحد يعرفُ عنْهُ شيئاً منذُ ذاك الحينِ.
*العجوز: عبارة احترام كناية على الوالدة أو الأم.
**المحاجب: أكلة تقليدية جزائرية.
***لالة: كنية للتقدير للسيدة العاصمية قديماً
وردة قـــــــــاسمي
الجزائر 20/02/2009
الجزائر 20/02/2009
تعليق